هيمنة الترجمة الآلية: مستقبل آتٍ أم خيال بعيد؟

بعد أن غيّرت جائحة كوفيد العالم، أكبر ما تغير هو اتكالنا على التكنولوجيا. فأجبرتنا ظروف الجائحة على العمل عن بعد أو من المنزل حتى صرنا ميّالين إلى هذا النوع من العمل حتى بعد عودة المياه إلى مجاريها. فهل يمكن توظيف التكنولوجيا في مجال الترجمة؟ هل يمكن لحاسوب إنتاج ترجمة بدقة وصحة الترجمة البشرية؟
ليس السؤالُ موضوعَ جدل عقيمًا، بل هو مبني على الترجمة الآلية المستندة إلى الذكاء الاصطناعي، والتي تزداد دقتها يومًا بعد يوم. وعام 2016 أعلن موقع “ذا فيرج” أن ترجمة غوغل القائمة على الذكاء الاصطناعي قاربت “مستوى الدقة البشرية“، وأخذت شركة مايكروسوفت خطوات كبيرة في المجال ذاته. لكن فعليًا، ما مدى جودتها؟
هل يمكن للحاسوب الترجمة كالإنسان؟
الجواب البسيط: لا. أما الجواب الأكثر تعقيدًا: فهناك جدل حول مجيء الترجمة الآلية العصبية، والتي تعمل على أساس الشبكات العصبية – أي نظام يبرمج خصيصًا لاكتشاف أنماط البيانات وتتبعها-. كما تستطيع الحواسيب معالجة بيانات كبيرة الحجم.
تختلف طبيعة عملية الترجمة بين الحاسوب والترجمة البشرية. فيحوّل الحاسوب النص إلى رموز من لغة إلى أخرى، ثم باستخدام نماذج الشبكات العصبية “يتعلّم” الحاسوب الصيغة الأصلية للرموز وكيف صارت بعد ترجمتها مستخدمًا البيانات السابقة – التي غالبًا ما تكون ترجمة سابقة أنجزها البشر. فعلى سبيل المثال تتم ترجمة محضر جلسات البرلمان الأوروبي إلى 21 لغة، والذي يعد كنزًا بالنسبة إلى أنظمة التعلم العصبي. وبهذه الطريقة كسرت الترجمة الآلية القوالب القديمة وحققت نجاحًا غير مسبوق.
برامج الحاسوب الذكية ستظل برامج
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل الأخطاء الناتجة بسبب طريقة عمل الحاسوب وتباعًا طريقة ترجمته. فبرنامج الحاسوب مكون من برمجيات معينة وخوارزميات لكل منها وظيفة محددة. ولكن اللغة البشرية بعيدة كل البعد عن هذا المبدأ.
لا يمكن اختزال البشر إلى أسطر من البرمجة أو الخوارزميات أو الرموز الحسابية، فهم كائنات أكثر تعقيدًا بكثير. والأكثر تعقيدًا هي اللغات التي يتواصلون بها؛ إنجاز البشر الأهم وأكبر ما يميزهم عن غيرهم من الكائنات. فاللغة في تغير مستمر، نظرًا لطبيعتها الديناميكية، ولن تظل مقولبة دون تغير كبرامج الحاسوب.
فلننسَ اللغة العامية ونركز على سرعة تغير العالم. فكل يوم نرى مصطلحًا مستجدًا وكلمات وتقنيات جديدة تدخل الصناعات المختلفة مثل الهندسة والطب والتجارة والسياسة وغيرها. ففي عام 2020 صارت الاجتماعات افتراضية عبر تقنية زوم نتيجة لجائحة كورونا، ولم يكن لهذه العبارة معنى قبل خمسة أعوام مثلًا.
ومع اضمحلال الحدود بين الدول والثقافات، انسابت المفردات والمصطلحات من لغة إلى أخرى. فأثّرَ المسلسل الإسباني واسع الصيت في الأردن على اللغة العامية في ضواحي عمان، مثلًا. فبتنا نستحدث عبارات وكلمات درج استخدامها في لغتنا اليومية. وهذا ما يجعل الترجمة الآلية غريبة بعض الشيء: إذ لا تستطيع المواكبة مع تطور اللغة بسبب تطور اللغة بسبب التكنولوجيا.
ما الذي يميز الترجمة البشرية عن الآلية؟
بغض النظر عن السرعة، ما الأمور التي يتقنها المترجم ولا يتمكن منها الحاسوب؟
1- الموثوقية
لا تفهم برامج الحاسوب معاني الكلمات، لكنها تقترح المفردة حيث ورد ذكرها في ترجمة سابقة. ما يؤدي إلى نتائج سريالية وغريبة، وأحيانًا مسيئة أو غير مفهومة. فعلى سبيل المثال، في أحد محال عمان، تمت ترجمة عبارات “فواكه مشكّلة” من العربية إلى الإنجليزية، لتكون النتيجة بمعنى ” فواكه معضلة”. فقرأ الحاسوب كلمة مشكّلة دون الشدّة على حرف الكاف وترجمها على أن معناها “مُشكِلَة”.
2- التوطين
ثمة أمثلة متعددة لعبارات ذات معنى محدد في قطر ومعنى مغاير في قطر آخر. فتجد تباينًا كبيرًا بين التعابير في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، أو في ألمانيا والنمسا، رغم أن اللغة كلغة هي ذاتها. سبق وتناولت مدوّنة جبران موضوع التوطين الجيد، وذكرنا كيف يكيّف المترجم الماهر النص ليناسب الجمهور المستهدف. فحتى الآن لم يتمكن الحاسوب من هذه الجزئية.
3- الاتّساق
لا تزال الترجمة الآلية العصبية بدائية من ناحية فهم السياق، رغم أنها مصممة خصيصًا لدراسة الكلمات في السياق المحدد. ومع أن الحواسيب تستطيع “التعلّم”، إلا أنها قلّما تتعلم الأشياء الصحيحة أو المطلوبة. وكما ذكرنا آنفًا فهي لا تفهم ما تتعلم.
4- المعنى الضمني والنبرة
قد تتمكن الترجمة الآلية العصبية من ترجمة التعابير الاصطلاحية لكن خبايا اللغة ما تزال لغزًا بالنسبة إليها. فيمكن تفسير رسالة رسمية على أنها تهديد، ويمكن أن يكون لحملة تسويقية معنى تهكّمي سوى المعنى الظاهر للعيان. يمتلك المترجم الحنكة اللازمة والمهارات لتفسير النص كما يجب تفسيره؛ لأنه إنسان عليم بطبيعة البشر وثنايا اللغة. فبالنسبة إلى الحاسوب التهكّم غير موجود لأن برمجة المنطق أمر مستحيل.
ما مشاكل الترجمة القائمة على الذكاء الاصطناعي؟
يمكن التغاضي عن مشاكل الترجمة الآلية الظريفة كلافتة المحل التجاري، لكن سيحصل ما لا يحمد عقباه إن كان للترجمة الآلية عواقب وخيمة على العالم الحقيقي. ومع أن البشر خطّاؤون أيضًا، يسهل حل المشاكل الناجمة عن الترجمة البشرية لامتلاك الأطراف المعنية منطقًا وذهنًا واعيًا يستطيع حل المشاكل. فاستخدم البشر على مر العصور التواصل المباشر لفض المشاكل، لكن الترجمة الآلية ما تزال متخلّفة عن البشر في هذا المجال.
أما عن مشاكل الترجمة الآلية فيمكن ذكر ثلاث منها:
1- تعمل الحواسيب مع البيانات وتعمل من البيانات أنماطًا
أوضح مثال على الأنماط محاولة الحواسيب ترجمة اللغات التي تستخدم التذكير والتأنيث؛ فإن استنتج الحاسوب نمط أن كلمة المهندس عادة ما تُشير إلى ذكر، ستترجم الحواسيب بشكل تلقائي كلمة مهندس ومهندسة على أن كلاهما مذكّر، بغض النظر عن السياق حتى وإن وردت الكلمة في سياق التأنيث. وما يزيد الموضوع سوءًا، تعاني الترجمة الآلية العصبية من نقص حاد في الاتّساق.
2- لا تفهم الحواسيب المعنى المراد
إليك عنوان المقال التالي من صحيفة كوريير ديلا سيرا الإيطالية، بعد ترجمته باستخدام الترجمة الآلية العصبية من غوغل: ” الأطباء والممرضات ، لصدمات كوفيد كما في قدامى المحاربين: عدم الراحة النفسية لأربعة من كل 10″. فالمعنى ناقص وغير منطقي، وقد تكون الترجمة أدق لو كانت: “الكوادر الطبية أثناء الجائحة: “صدمة شبيه بصدمة الحرب” نجم عنها معاناة 4 من أصل 10 أطبّاء وممرضين من اضطراب عقلي”. وفي عصر الأخبار المزيفة وانتشار الإشاعات، يمكن لعنوان رديء الترجمة أن يؤدي إلى عواقب وخيمة.
3- لا تمتلك الحواسيب منطقًا
خاصة عند ترجمة الاختصارات، لا يمكن للحاسوب التفريق بين اختصارَين كالبشر، ولا يستطيع التمييز بين المعاني.
هل ستستبدل الآلة المترجمين؟ ربّما يومًا ما. لكن تكنولوجيا اليوم لا تزال بسيطة بعض الشيء، وصارت البرامج أداة يستعين بها المترجم عوضًا عن بديل عنه. ومن أعلم بالترجمة عالية الجودة من شركة جبران. لا تترد بالتواصل معنا لكل خدمات الترجمة والتوطين والتدقيق.
Leave a Reply